فصل: سنة أربع وخمسين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة أربع وخمسين وخمسمائة:

.ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع إفريقية:

قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة المهدية من صاحبها الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وقد ذكرنا أيضاً سنة إحدى وخمسين ما فعله الفرنج بالمسلمين في زويلة المدينة المجاورة للمهدية من القتل والنهب، فلما قتلهم الفرنج، ونهبوا أموالهم، هرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن صاحب المغرب، وهو بمراكش، يستجيرونه، فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم، وأبروه بما جرى على المسلمين، وأنه ليس من ملوك الإسلام من يقصد سواه، ولا يكشف هذا الكرب غيره، فدمعت عيناه وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: أبشروا، لأنصرنكم ولو بعد حين.
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار، ثم أمر بعمل الروايا والقرب والحياض وما يحتاج إليه العسكر في السفر، وكتب إلى جميع نوابه في المغرب، وكان قد ملك إلى قريب تونس، يأمرهم بحفظ ما يتحصل من الغلات، وأن يترك في سنبله، ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الأبار في الطرق، ففعلوا جميع ما أمرهم به، وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل، وطينوا عليها، فصارت كأنها تلال.
فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن مراكش، وكان أكثر أسفاره في صفر، فسار يطلب إفريقية، واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل،، ومن الأتباع والسوقة أمثالهم، وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى منهم سنبلة، وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحدد بتكبيرة واحدة، لا يتخلف منهم أحد كائن من كان.
وقدم بين يديه الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، الذي كان صاحب المهدية وإفريقية، وقد ذكرنا سبب مصيره عند عبد المؤمن، فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وبها صاحبها أحمد بن خراسان، وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينياً وطريدة وشلندى، فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته، فامتنعوا، فقاتلهم من الغد أشد قتال، فلم يبق إلا أخذها، ودخول الأسطول إليها، فجاءت ريح عاصف منعت الموحدين من دخول البلد، فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه.
فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلاً من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم، فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة، وأما ما عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم، ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله؛ فاستقر ذلك، وتسلم البلد، وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول، وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم، وأقام عليها ثلاثة أيام، وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى، فمن أسلم سلم، ومن امتنع قتل، وأقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم.
وسار عبد المؤمن منها إلى المهدية والأسطول يحاذيه في البحر، فوصل إليها ثامن عشر رجب، وكان حينئذ بالمهدية أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا زويلة، وبينها وبين المهدية غلوة سهم، فدخل عبد المؤمن زويلة، وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة، ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها، وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء، وأقبلوا يقاتلون المهدية مع الأيام، فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق موقع القتال عليها، لأن البحر دائر بأكثرها، فكأنها كف في البحر، وزندها متصل بالبر.
وكانت الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر، فتنال منه وتعود سريعاً؛ فأمر عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج، وأحاط الأسطول بها في البحر، وركب عبد المؤمن في شيني، ومعه الحسن ابن علي الذي كان صاحبها، وطاف بها في البحر، فهاله ما رأى من حصانتها، وعلم أنها لا تفتح بقتال براً ولا بحراً، وليس لها إلا المطاولة، وقال للحسن: كيف نزلت عن مثل هذا الحصن؟ فقال: لقلة ما يوثق به، وعدم القوت، وحكم القدر. فقال: صدقت! وعاد من البحر، وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال، فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير، فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون: متى حدثت هذه الجبال هاهنا؟ فيقال لهم: هي حنطة وشعير؛ فيعجبون من ذلك.
وتمادى الحصار، وفي مدته أطاع سفاقس عبد المؤمن، وكذلك مدينة طرابلس، وجبال نفوسة، وقصور إفريقية وما والاها، وفتح مدينة قابس بالسيف، وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلاداً، ثم أن أهل مدينة قفصة لما رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته، وتسليم المدينة إليه، فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعز، ومعه جماعة من أعيانها، وقصدوا عبد المؤمن، فلما أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن: قد اشتبه عليك، ليس هؤلاء أهل قفصة؛ فقال له: لم يشتبه علي؛ قال له عبد المؤمن: كيف يكون ذلك والمهدي يقول إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها، ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.فأرسل إليهم طائفة من أصحابه، ومدحه شاعر بقصيدة أولها:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل ** مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي

فوصله بألف دينار، ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان، من السنة جاء اسطول صاحب صقلية في مائة وخمسين شينياً غير الطرائد، وكان قدومه من جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه، فأرسل إليهم ملك الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى المهدية، فقدموا في التاريخ، فلما قاربوا المهدية حطوا شراعهم ليدخلوا الميناء، فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن، وركب العسكر جميعه، ووقفوا على جانب البحر، فاستعظم الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر، ودخل الرعب قلوبهم، وبقي عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض، ويبكي ويدعوا للمسلمين بالنصر، واقتتلوا في البحر، فانهزمت شواني الفرنج، وأعادوا القلوع، وتبعهم المسلمون، فأخذوا منهم سبع شوان، ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرها، وكان أمراً عجيباً، وفتحاً قريباً.
وعاد أسطول المسلمين مظفراً منصوراً، وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال؛ ويئس أهل المهدية حينئذ من النجدة، وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى آخر شهر ذي الحجة من السنة، فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة، وسألوا الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم، وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل، فعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إليه فلم يجيبوا، ولم يزالوا يترددون إليه أياماً واستعطفوه بالكلام اللين، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم وأعطاهم سفناً فركبوا فيها وساروا، وكان الزمان شتاء، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية غلا النفر اليسير.
وكان صاحب صقلية قد قال: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا في المهدية قتلنا المسلمين الذين هم بجزيرة صقلية، وأخذنا حرمهم وأموالهم؛ فأهلك الله الفرنج غرقاً، وكانت مدة ملكهم المهدية اثنتي عشرة سنة.
ودخل عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس، وأقام بالمهدية عشرين يوماً، فرتب أحوالها، وأصلح ما انثلم من سورها، ونقل إليها الذخائر من القوات والرجال والعدد، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الذي كان صاحبها، وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله، وأقطع الحسن بها أقطاعاً، وأعطاه دوراً نفيسة يسكنها، وكذلك فعل بأولاده، ورحل من المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب.

.ذكر إيقاع عبد المؤمن بالعرب:

لما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بإفريقية، وقال لهم: قد وجبت علينا نصرة الإسلام، فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس، واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين، وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام، وبكم يدفع عنها العدو الآن، ونريد منكم عشرة ألاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله. فأجابوا بالسمع والطاعة، فحلفهم على ذلك بالله تعالى، وبالمصحف، فحلفوا، ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان.
وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالكن وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيها، فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سراً: إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس، وقالوا ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا، وإنهم لا يفون بما حلفوا عليه؛ فقال: يأخذ الله، عز وجل الغادر. فلما كانت الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم، ودخلوا البر، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق.
ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيء، وسار مغرياً يحث السير حتى قرب القسنطينة، فنزل في موضع خصب يقال له. وادي النساء، والفصل ربيع، والكلأ مستحسن، فأقام به وضبط الطرق، فلا يسير من العسكر أحد البتة، ودام ذلك عشرين يوماً، فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبراً مع كثرته وعظمه، ويقولون: ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس، فحث لأجله السير، فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه، وسكنوا البلاد التي ألفوها، واستقروا في البلاد.
فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم، فجدوا السير، وقطعوا المفاوز، فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم، من جهة الصحراء، ليمنعوهم الدخول إليها إن راموا ذلك.
وكانوا قد نزلوا جنوباً من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن، وهم زهاء ثمانين ألف بيت، والمشاهير من مقدميهم: أبو محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل، وغيرهم، فلما أطلت عليهم عساكر عبد المؤمن أضطربوا، واختلفت كلمتهم، ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما، وثبت محرز بن زياد، وأمرهم بالثبات والقتال، فلم يلتفتوا إليه، فثبت هو ومن معه من جمهور العرب، فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة، وثبت الجمعان، واشتد العراك بينهما وكثر القتل، فاتفق أن محرز بن زياد قتل، ورفع رأسه على رمح، فانهزمت جموع العرب عند ذلك، وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال، وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل، فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح، وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب، وفعل معهم مثل ما فعل في حريم الأبثج.
ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج، فأجمل الصنيع لهم، ورد الحريم إليهم، فلم يبق منهم أحد إلا وصار عنده، وتحت حكمه، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان، ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول، وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل القرن، فبقيت دهراً طويلاً كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد، وبقيت إفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارجاً عن طاعته إلا مسعود بن زمام، وطائفته في أطراف البلاد.

.ذكر غرق بغداد:

في هذه السنة، ثامن ربيع الآخر، كثرت الزيادة في دجلة، وخرق القورج فوق بغداد، وأقبل الد إلى البلد، فامتلأت الصحاري وخندق البلد، وأفسد الماء السور وأحدث فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر، فوقع بعض السور عليها فسدها، ثم فتح الماء فتحة أخرى، وأهملوها ظناً أنها تنفث عن السور لئلا يقع، فغلب الماء، وتعذر سده، فغرق قراح ظفر، والأجمة، والمختارة، والمقتدية، ودرب القبار، وخرابة ابن جردة، والريان، وقراح القاضي، وبعض القطيعة، وبعض باب الأزج، وبعض المأمونية، وقراح أبي الشحم، وبعض قراح ابن رزين، وبعض الظفرية.
ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي، فبلغت المعبرة عدة دنانير، ولم يكن يقدر عليها، ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء، فكثر الخراب، وبقيت المحال لا تعرف إنما هي تلول، فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين.
وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر، وانخسفت القبور المبنية، وخرج الموتى على رأس الماء، وكذلك المشهد والحربية، وكان أمراً عظيماً.

.ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامه:

في هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى إقطاعه، وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف، وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي، ومعه أربعمائة فارس، فأرسل إليه يقول له: ارحل عن بلدي؛ فامتنع، فسار إليه، وجرى بينهم قتال شديد انهزم فيه العميدي، ورجع إلى بغداد بأسوء حال.
فبرز الخليفة، وسار في عساكره إلى سنقر، فوصل إلى العمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع إلى بغداد، ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني، فتوغل سنقر في الجبال هارباً، ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك، وأسر وزيره، وقتل من رأى من أصحابه، ونزل على الماهكي وحصرها أياماً، ثم عاد إلى البندنيجين، وأرسل إلى بغداد بالبشارة.
وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده، فسير معه خمس مائة فارس، فعاد ونزل على قلعة هناك، وأفسد أصحابه في البلاد، وأرسل ترشك إلى بغداد يطلب نجدة، فجاءته، فأراد سنقر أن يكبس ترشكن فعرف ذلك، فاحترز، فعدل سنقر إلى المخادعة، فأرسل رسولاً إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة، فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه، فكبس سنقر ليلاً، فانهزم هو وأصحابه، وكثر القتل فيهم، وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا.

.ذكر الفتنة بين عامة استراباذ:

في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم. وكان سببها أن الإمام محمداً الهروي وصل إلى استراباذ، فعقد مجلس الوعظ، وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيمي شافعي المذهب أيضاً فثار العلويين ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ، ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون، فقتل من الشافعية جماعة، وضرب القاضي ونهبت داره ودور من معه، وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه.
فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه، وأنكر على العلويين فعلهم، وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع، وقطع عنهم جرايات كانت لهم، ووضع الجبايات والمصادرات على العامة، فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة.

.ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن ملكشاه:

في هذه السنة، في ذي الحجة، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد، وهو الذي حاصر بغداد طالباً السلطنة وعاد عنها، فأصابه سل، وطال بهن فمات بباب همذان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه، فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها، فلما رآه بكى، وقال: هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة، ولا يزيدون في أجلي لحظة. وأمر بالجميع فرفع بعد أن فرق منه شيئاً كثيراً.
وكان حليماً كريماً عاقلاً كثير التأني في أموره؛ وكان له ولد صغير، فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، وهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل إلى مراغة، فلما مات اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه، وهم الأكثر، وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فإما ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحب فارسن وشملة التركماني وغيرهما، فوصل إلى أصفهان، فسلمها إليه ابن الخجندي، وجمع له مالاً أنفقه عليه، وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم، ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه.

.ذكر أخذ حران من نور الدين وعوده إليها:

في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي، صاحب حلب، مرضاً شديداً وأرجف بموته؛ وكان بقلعة حلب، ومعه أخوه الأصغر أمير أميران، فجمع الناس وحصر القلعة، وكان شيركوه، وهو أكبر أمرائه بحمص، فبلغه خبر موته، فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا! والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد إلى حلب مجداً وصعد القلعة، وأجلس نور الدين في مكان يراه فيه الناس، وكلمهم، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير أميران، فسار إلى حران فملكها.
فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها، فهرب أخوه منه، وترك أولاده بحران في القلعة، فملكها نور الدين، وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين، صاحب الموصل، ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة، وبها أولاد أميرك الجاندار، وهو من أعيان الأمراء، وقد توفي وبقي أولاده، فنازلها، فشفع جماعة من الأمراء فيهم، فغضب من ذلك، وقال: هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي! فلم يشفعهم وأخذها منهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله، واشتد مرضه، وعوفي فضربت البشائر ببغداد، وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة، وغلق البلد أسبوعاً.
وفيها عاد ترشك إلى بغداد، ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن، وكان قد عصى الخليفة والتحق بالعجم، فعاد الآن فرضي عنه، وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالاً.
وفيها، في جمادى الأولى، أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكراً إلى بلد الإسماعيلية ليأخذ نهم الخراج الذي عليهم، فنزل عليهم الإسماعيلية من الجبال، فقتلوا كثيراً من العسكر، وأسروا الأمير الذي كان مقدماً عليهم اسمه قتيبة، وهو صهر ابن أنز، فبقي أسيراً عندهم عدة شهور، حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن، وخلص من الأسر.
وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعيد الصاعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان، وكان موته بالري، ودفن في مقبرة محمد ابن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، وكان القاضي حنفياً أيضاً. ثم دخلت:

.سنة خمس وخمسين وخمسمائة:

.ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان:

في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة، وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل.
وسبب مسيره إليها أن الملك محمدا ًابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه إليهم ليولوه السلطنة، فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطاناً وقطب الدين أتابكه، وجمال الدين وزير قطب الدين وزيراً للملك سليمان شاه، وزين الدين علي أمير العساكر الموصلية مقدم جيش سليمان شاه، وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين، وسار ومعه زين الدين علي في عسكر الموصل إلى همذان.
فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم إرسالاً كل يوم يلقاه طائفة وأمير، فاجتمع مع سليمان شاه عسكر عظيم، فخافهم زين الدين على نفسه لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف منه، فعاد إلى الموصل، فحين عاد عنه لم ينتظم أمره، ولم يتم له ما أراده، وقبض العسكر عليه بهمذان في شوال سنة ست وخمسين، وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل، وهو الذي تزوج إيلدكز بأمه، وسيذكر مشروحاً إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويين:

في هذه السنة، في صفر، توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، صاحب مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين؛ وكان له لما ولي خمس سنين، كما ذكرناه. ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، واستدعى خادماً كبيراً، وقال له: من هاهنا يصلح للخلافة؟ فقال: هاهنا جماعة؛ وذكر أسمائهم، وذكر له منهم إنسان كبير السن، فأمر بإحضاره، فقال له بعض أصحابه سراً: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر؛ فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد في ذلك الوقت مراهقاً قارب البلوغ، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح ابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله، وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت.

.ذكر موت الخليفة المقتفي لأمر الله وشيء من سيرته:

في هذه السنة، ثاني ربيع الأول، توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، رضي الله عنه، بعلة التراقي؛ وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد تدعى ياعي؛ وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعاً في ربيع الأول.
وكان حليماً كريماً عادلاً حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير. وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه من أول أيام الدليم إلى الآن، وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن، إلا أن يكون المعتضد، وكان شجاعاً مقداماً مباشراً للحروب بنفسه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته شيءمنها.

.ذكر خلافة المستنجد بالله:

وفي هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين، واسمه يوسف، وأمه أم ولد تدعى طاووس، بعد موت والده؛ وكان للمقتفي حظية، وهي أم ولده أبي علي، فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة. قالوا: كيف الحيلة مع ولي العهد؟ فقالت: إذا دخل على والده قبضت عليه. وكان يدخل على أبيه كل يوم. فقالوا: لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة؛ فوقع اختيارهم على ابي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدعوه إلى ذلك، فأجابهم على أن يكون وزيراً، فبذلوا له ما طلب.
فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين، وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله. وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده، فرأى الجواري بأيديهن السكاكين، ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين، فعاد إلى المستنجد فأخبره، وأرسلت هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده، فاستدعى أستاذ الدار عضد الدين وأخذه معه وجماعة من الفراشين، ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف، فلما دخل ثارت به الجواري، فضرب واحدة منهن فجرحها، وكذلك أخرى، فصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون، فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما، وأخذ الجواري فقتل منهن، وغرق منهن ودفع الله عنه.
فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة، فبايعه أهله وأقاربه، وأولهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونثرت الدراهم والدنانير.
حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنام منذ خمس عشرة سنة، وقال لي: يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة؛ فكان كما قال، صلى الله عليه وسلم. قال: ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة أشهر، فدخل بي في باب كبير، ثم ارتقى إلى رأس جبل، وصلى بي ركعتين، ثم ألبسني قميصاً، ثم قال لي: قل اللهم اهدني فيمن هديت؛ وذكر دعاء القنوت.
ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقبض على القاضي ابن الرخم وقال: وكان بئس الحاكم، وأخذ منه مالاً كثيراً، وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان من علوم الفلاسفة، فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا، وكتاب أخوان الصفا، وما شاكلهما، وقدم عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان أستاذ الدار يمكنه، وتقدم إلى الوزير أن يقوم له، وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني، ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي، وخلع عليه.